الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب الاِجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: 2008- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْر أَحْيَا اللَّيْل وَأَيْقَظَ أَهْله وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَر». وَفِي رِوَايَة: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِد فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مَا لَمْ يَجْتَهِد فِي غَيْره» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى (شَدَّ الْمِئْزَر) فَقِيلَ: هُوَ الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَات زِيَادَة عَلَى عَادَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْره، وَمَعْنَاهُ: التَّشْمِير فِي الْعِبَادَات، يُقَال: شَدَدْت لِهَذَا الْأَمْر مِئْزَرِي، أَيْ: تَشَمَّرْت لَهُ وَتَفَرَّغْت، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَة عَنْ اِعْتِزَال النِّسَاء لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ.وَقَوْلهَا: «أَحْيَا اللَّيْل» أَيْ: اِسْتَغْرَقَهُ بِالسَّهَرِ فِي الصَّلَاة وَغَيْرهَا، وَقَوْلهَا: «وَأَيْقَظَ أَهْله» أَيْ: أَيْقَظَهُمْ لِلصَّلَاةِ فِي اللَّيْل وَجَدَّ فِي الْعِبَادَة زِيَادَة عَلَى الْعَادَة.فَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يُزَاد مِنْ الْعِبَادَات فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان، وَاسْتِحْبَاب إِحْيَاء لَيَالِيه بِالْعِبَادَاتِ.وَأَمَّا قَوْل أَصْحَابنَا: يُكْرَه قِيَام اللَّيْل كُلّه، فَمَعْنَاة: الدَّوَام عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِكَرَاهَةِ لَيْلَة وَلَيْلَتَيْنِ وَالْعَشْر، وَلِهَذَا اِتَّفَقُوا عَلَى اِسْتِحْبَاب إِحْيَاء لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَغَيْر ذَلِكَ. (وَالْمِئْزَر) بِكَسْرِ الْمِيم مَهْمُوز وَهُوَ الْإِزَار. وَاَللَّه أَعْلَم..(بَاب صَوْم عَشْر ذِي الْحِجَّة): فيه قَوْل عَائِشَة: «مَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْر قَطُّ» وَفِي رِوَايَة: «لَمْ يَصُمْ الْعَشْر» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا يُوهِم كَرَاهَة صَوْم الْعَشَرَة، وَالْمُرَاد بِالْعَشْرِ هُنَا: الْأَيَّام التِّسْعَة مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّة، قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا يُتَأَوَّل فَلَيْسَ فِي صَوْم هَذِهِ التِّسْعَة كَرَاهَة، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّة اِسْتِحْبَابًا شَدِيدًا لاسيما التَّاسِع مِنْهَا، وَهُوَ يَوْم عَرَفَة، وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيث فِي فَضْله، وَثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّام الْعَمَل الصَّالِح فيها أَفْضَل مِنْهُ فِي هَذِهِ»- يَعْنِي: الْعَشْر الْأَوَائِل مِنْ ذِي الْحِجَّة-. فَيَتَأَوَّل قَوْلهَا: لَمْ يَصُمْ الْعَشْر، أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَض أَوْ سَفَر أَوْ غَيْرهمَا، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فيه، وَلَا يَلْزَم عَنْ ذَلِكَ عَدَم صِيَامه فِي نَفْس الْأَمْر، وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث هُنَيْدَة بْن خَالِد عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْع ذِي الْحِجَّة، وَيَوْم عَاشُورَاء، وَثَلَاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر: الِاثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْر وَالْخَمِيس وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظه وَأَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَتهمَا (وَخَمِيسَيْنِ). وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله فِي الْإِسْنَاد الْأَخِير: (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن نَافِع الْعَبْدِيُّ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش) وَهُوَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ، وَفِي بَعْضهَا شُعْبَة بَدَل سُفْيَان، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْفَارِسِيّ، وَنَقَلَ الْأَوَّل عَنْ جُمْهُور الرُّوَاة لِصَحِيحِ مُسْلِم. وَاَللَّه أَعْلَم.2010- سبق شرحه بالباب.2011- سبق شرحه بالباب.بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم.كِتَاب الْحَجّ: الْحَجّ: بِفَتْحِ الْحَاء هُوَ الْمَصْدَر، وَبِالْفَتْحِ وَالْكَسْر جَمِيعًا هُوَ الِاسْم مِنْهُ، وَأَصْله: الْقَصْد، وَيُطْلَق عَلَى الْعَمَل أَيْضًا، وَعَلَى الْإِتْيَان مَرَّة بَعْد أُخْرَى، وَأَصْل الْعُمْرَة: الزِّيَارَة.وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَجّ فَرْض عَيْن عَلَى كُلّ مُكَلَّف حُرّ مُسْلِم مُسْتَطِيع.وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وُجُوب الْعُمْرَة فَقِيلَ: وَاجِبَة، وَقِيلَ: مُسْتَحَبَّة، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَصَحّهمَا وُجُوبهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب الْحَجّ وَلَا الْعُمْرَة فِي عُمْر الْإِنْسَان إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة، إِلَّا أَنْ يَنْذِر فَيَجِب الْوَفَاء بِالنَّذْرِ بِشَرْطِهِ، وَإِلَّا إِذَا دَخَلَ مَكَّة أَوْ حَرَمهَا لِحَاجَةٍ لَا تَتَكَرَّر مِنْ تِجَارَة أَوْ زِيَارَة وَنَحْوهمَا، فَفِي وُجُوب الْإِحْرَام بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة خِلَاف الْعُلَمَاء وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا: اِسْتِحْبَابه، وَالثَّانِي وُجُوبه بِشَرْطِ أَلَّا يَدْخُل لِقِتَالٍ وَلَا خَائِفًا مِنْ ظُهُوره وَبُرُوزه. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوب الْحَجّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْر أَوْ التَّرَاخِي؟ فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَطَائِفَة: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، إِلَّا أَنْ يَنْتَهِي إِلَى حَال يُظَنّ فَوَاته لَوْ أَخَّرَهُ عَنْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَآخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْفَوْر. وَاَللَّه أَعْلَم..باب مَا يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَمَا لاَ يُبَاحُ وَبَيَانِ تَحْرِيمِ الطِّيبِ عَلَيْهِ: 2012- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ مَا يَلْبَس الْمُحْرِم: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُص وَلَا الْعَمَائِم وَلَا السَّرَاوِيلَات وَلَا الْبَرَانِس وَلَا الْخِفَاف إِلَّا أَحَد لَا يَجِد النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَاب شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَان وَلَا الْوَرْس» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا مِنْ بَدِيع الْكَلَام وَجَزِله؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسهُ الْمُحْرِم فَقَالَ: لَا يَلْبَس كَذَا وَكَذَا، فَحَصَلَ فِي الْجَوَاب أَنَّهُ لَا يَلْبَس الْمَذْكُورَات، وَيَلْبَس مَا سِوَى ذَلِكَ، وَكَانَ التَّصْرِيح بِمَا لَا يَلْبَس أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُنْحَصِر، وَأَمَّا الْمَلْبُوس الْجَائِز لِلْمُحْرِمِ فَغَيْر مُنْحَصِر فَضُبِطَ الْجَمِيع بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَلْبَس كَذَا وَكَذَا) يَعْنِي: وَيَلْبَس مَا سِوَاهُ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ لُبْس شَيْء مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَات، وَأَنَّهُ نَبَّهَ بِالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيل عَلَى جَمِيع مَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَهُوَ مَا كَانَ مُحِيطًا أَوْ مَخِيطًا مَعْمُولًا عَلَى قَدْر الْبَدَن أَوْ قَدْر عُضْو مِنْهُ، كَالْجَوْشَنِ وَالتُّبَّان وَالْقُفَّاز وَغَيْرهَا، وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِس عَلَى كُلّ سَاتِر لِلرَّأْسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْره، حَتَّى الْعِصَابَة فَإِنَّهَا حَرَام، فَإِنْ اِحْتَاجَ إِلَيْهَا لِشَجَّةٍ أَوْ صُدَاع أَوْ غَيْرهمَا شَدَّهَا وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَة، وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِفَافِ عَلَى كُلّ سَاتِر لِلرِّجْلِ مِنْ مَدَاس وَجُمْجُم وَجَوْرَب وَغَيْرهَا، وَهَذَا كُلّه حُكْم الرِّجَال، وَأَمَّا الْمَرْأَة فَيُبَاح لَهَا سَتْر جَمِيع بَدَنهَا بِكُلِّ سَاتِر مِنْ مَخِيط وَغَيْره، إِلَّا سَتْر وَجْههَا فَإِنَّهُ حَرَام بِكُلِّ سَاتِر، وَفِي سَتْر يَدَيْهَا بِالْقُفَّازَيْنِ خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا: تَحْرِيمه، وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَان عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَهُوَ الطِّيب، فَيَحْرُم عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَة جَمِيعًا فِي الْإِحْرَام جَمِيع أَنْوَاع الطِّيب، وَالْمُرَاد مَا يُقْصَد بِهِ الطِّيب، وَأَمَّا الْفَوَاكِه كَالْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاح وَأَزْهَار الْبَرَارِي كَالشِّيحِ وَالْقَيْصُوم وَنَحْوهمَا، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَد لِلطِّيبِ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم اللِّبَاس الْمَذْكُور عَلَى الْمُحْرِم وَلِبَاسه الْإِزَار وَالرِّدَاء أَنْ يَبْعُد عَنْ التَّرَفُّه وَيَتَّصِف بِصِفَةِ الْخَاشِع الذَّلِيل؛ وَلْيَتَذَكَّرْ أَنَّهُ مُحْرِم فِي كُلّ وَقْت، فَيَكُون أَقْرَب إِلَى كَثْرَة أَذْكَاره، وَأَبْلَغ فِي مُرَاقَبَته وَصِيَانَته لِعِبَادَتِهِ، وَامْتِنَاعه مِنْ اِرْتِكَاب الْمَحْظُورَات؛ وَلِيَتَذَكَّرَ بِهِ الْمَوْت وَلِبَاس الْأَكْفَان، وَيَتَذَكَّر الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة، وَالنَّاس حُفَاة عُرَاة مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي، وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم الطِّيب وَالنِّسَاء: أَنْ يَبْعُد عَنْ التَّرَفُّه وَزِينَة الدُّنْيَا وَمَلَاذّهَا، وَيَجْتَمِع هَمّه لِمَقَاصِد الْآخِرَة، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا أَحَد لَا يَجِد النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَذَكَرَ مُسْلِم بَعْد هَذَا مِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس وَجَابِر: «مَنْ لَمْ يَجِد نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» وَلَمْ يَذْكُر قَطْعهمَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ أَحْمَد: يَجُوز لُبْس الْخُفَّيْنِ بِحَالِهِمَا، وَلَا يَجِب قَطْعهمَا؛ لِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس وَجَابِر، وَكَانَ أَصْحَابه يَزْعُمُونَ نَسْخ حَدِيث اِبْن عُمَر الْمُصَرِّح بِقَطْعِهِمَا، وَزَعَمُوا أَنَّ قَطْعهمَا إِضَاعَة مَال، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا يَجُوز لُبْسهمَا إِلَّا بَعْد قَطْعهمَا أَسْفَل مِنْ الْكَعْبَيْنِ؛ لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر، قَالُوا: وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس وَجَابِر مُطْلَقَانِ، فَيَجِب حَمْلهمَا عَلَى الْمَقْطُوعَيْنِ، لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر، فَإِنَّ الْمُطْلَق يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّد، وَالزِّيَادَة مِنْ الثِّقَة مَقْبُولَة، وَقَوْلهمْ: إِنَّهُ إِضَاعَة مَال لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَاعَة إِنَّمَا تَكُون فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ الشَّرْع بِهِ فَلَيْسَ بِإِضَاعَةٍ، بَلْ حَقّ يَجِب الْإِذْعَان لَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.ثُمَّ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي لَابِس الْخُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ، هَلْ عَلَيْهِ فِدْيَة أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا: لَا شَيْء عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِدْيَة لَبَيَّنَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه: عَلَيْهِ الْفِدْيَة كَمَا إِذَا اِحْتَاجَ إِلَى حَلْق الرَّأْس يَحْلِقهُ وَيَفْدِي. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَاب شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَان وَلَا الْوَرْس».أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَحْرِيم لِبَاسهمَا لِكَوْنِهِمَا طِيبًا، وَأَلْحَقُوا بِهِمَا جَمِيع أَنْوَاع مَا يُقْصَد بِهِ الطِّيب، وَسَبَب تَحْرِيم الطِّيب أَنَّهُ دَاعِيَة إِلَى الْجِمَاع؛ وَلِأَنَّهُ يُنَافِي تَذَلُّل الْحَاجّ، فَإِنَّ الْحَاجّ أَشْعَث أَغْبَر، وَسَوَاء فِي تَحْرِيم الطِّيب الرَّجُل وَالْمَرْأَة، وَكَذَا جَمِيع مُحَرَّمَات الْإِحْرَام سِوَى اللِّبَاس كَمَا سَبَقَ بَيَانه.وَمُحَرَّمَات الْإِحْرَام سَبْعَة: اللِّبَاس بِتَفْصِيلِهِ السَّابِق، وَالطِّيب، وَإِزَالَة الشَّعْر وَالظُّفْر، وَدَهْن الرَّأْس وَاللِّحْيَة، وَعَقْد النِّكَاح وَالْجِمَاع، وَسَائِر الِاسْتِمْتَاع حَتَّى الِاسْتِمْنَاء، وَالسَّابِع: إِتْلَاف الصَّيْد. وَاَللَّه أَعْلَم.وَإِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ مَا نُهِيَ عَنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَة إِنْ كَانَ عَامِدًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَة عِنْد الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك، وَلَا يَحْرُم الْمُعَصْفَر عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ، وَحَرَّمَهُ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَجَعَلَاهُ طِيبًا، وَأَوْجَبَا فيه الْفِدْيَة، وَيُكْرَه لِلْمُحْرِمِ لُبْس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بِغَيْرِ طِيب، وَلَا يَحْرُم. وَاَللَّه أَعْلَم.2015- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّرَاوِيل لِمَنْ لَمْ يَجِد الْإِزَار وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِد النَّعْلَيْنِ» يَعْنِي: الْمُحْرِم، هَذَا صَرِيح فِي الدَّلَالَة لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُور فِي جَوَاز لُبْس السَّرَاوِيل لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِد إِزَارًا، وَمَنَعَهُ مَالِك؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَر فِي حَدِيث اِبْن عُمَر السَّابِق، وَالصَّوَاب إِبَاحَته بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس هَذَا مَعَ حَدِيث جَابِر بَعْده، أَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر فَلَا حُجَّة فيه؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فيه حَالَة وُجُود الْإِزَار، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ اِبْن عَبَّاس وَجَابِر حَالَة الْعَدَمِ، فَلَا مُنَافَاة. وَاَللَّه أَعْلَم.2017- قَوْله: «وَكَانَ يَعْلَى يَقُول: وَدِدْت أَنِّي أَرَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْي فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ تَنْظُر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «فَقَالَ: أَيَسُرُّك» وَلَمْ يُبَيِّن الْقَائِل مَنْ هُوَ، وَلَا سَبَقَ لَهُ ذِكْر، وَهَذَا الْقَائِل: هُوَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ.قَوْله: «وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ» فيها لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا إِسْكَان الْعَيْن وَتَخْفِيف الرَّاء. وَالثَّانِيَة: كَسْر الْعَيْن وَتَشْدِيد الرَّاء، وَالْأُولَى أَفْصَح، وَبِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة، وَهَكَذَا اللُّغَتَانِ فِي تَخْفِيف الْحُدَيْبِيَة وَتَشْدِيدهَا، وَالْأَفْصَح التَّخْفِيف، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ.قَوْله: «عَلَيْهِ جُبَّة وَعَلَيْهَا خَلُوق» هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء، وَهُوَ نَوْع مِنْ الطِّيب يُعْمَل فيه زَعْفَرَان.قَوْله: «لَهُ غَطِيط» هُوَ كَصَوْتِ النَّائِم الَّذِي يُرَدِّدهُ مَعَ نَفَسه.قَوْله: «كَغَطِيطِ الْبَكْر» هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَهُوَ الْفَتِيّ مِنْ الْإِبِل.قَوْله: «فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ» هُوَ بِضَمِّ السِّين وَكَسْر الرَّاء الْمُشَدَّدَة، أَيْ: أُزِيلَ مَا بِهِ وَكُشِفَ عَنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِ عَنْ الْعُمْرَة: «اِغْسِلْ عَنْك أَثَر الصُّفْرَة» فيه: تَحْرِيم الطِّيب عَلَى الْمُحْرِم اِبْتِدَاء وَدَوَامًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَرُمَ دَوَامًا فَالِابْتِدَاء أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. وَفيه: إِنَّ الْعُمْرَة يَحْرُم فيها مِنْ الطِّيب وَاللِّبَاس وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُحَرَّمَات السَّبْعَة السَّابِقَة مَا يَحْرُم فِي الْحَجّ. وَفيه: أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ طِيب نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَة إِلَى إِزَالَته. وَفيه: أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ فِي إِحْرَامه طِيب نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاق وَدَاوُد، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالْمُزَنِيّ وَأَحْمَد فِي أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: عَلَيْهِ الْفِدْيَة، لَكِنْ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَب مَالِك: أَنَّهُ إِنَّمَا تَجِب الْفِدْيَة عَلَى الْمُتَطَيِّب نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا إِذَا طَالَ لُبْثه عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاخْلَعْ عَنْك جُبَّتك» دَلِيل لِمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ الْمُحْرِم إِذَا صَارَ عَلَيْهِ مَخِيط يَنْزِعهُ، وَلَا يَلْزَمهُ شَقّه، وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ: لَا يَجُوز نَزْعه؛ لِئَلَّا يَصِير مُغَطِّيًا رَأْسه، بَلْ يَلْزَمهُ شَقّه، وَهَذَا مَذْهَب ضَعِيف.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتك مَا أَنْتَ صَانِع فِي حَجّك» مَعْنَاهُ: مِنْ اِجْتِنَاب الْمُحَرَّمَات، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ مَعَ ذَلِكَ الطَّوَاف وَالسَّعْي وَالْحَلْق بِصِفَاتِهَا وَهَيْئَاتهَا، وَإِظْهَار التَّلْبِيَة غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِك فيه الْحَجّ وَالْعُمْرَة، وَيَخُصّ مِنْ عُمُومه مَا لَا يَدْخُل فِي الْعُمْرَة مِنْ أَفْعَال الْحَجّ، كَالْوُقُوفِ وَالرَّمْي وَالْمَبِيت بِمِنًى وَمُزْدَلِفَة وَغَيْر ذَلِكَ.وَهَذَا الْحَدِيث ظَاهِر فِي أَنَّ هَذَا السَّائِل كَانَ عَالِمًا بِصِفَةِ الْحَجّ دُون الْعُمْرَة، فَلِهَذَا قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتك مَا أَنْتَ صَانِع فِي حَجّك».وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَة: أَنَّ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي إِذَا لَمْ يَعْلَم حُكْم الْمَسْأَلَة أَمْسَكَ عَنْ جَوَابهَا حَتَّى يَعْلَمهُ أَوْ يَظُنّهُ بِشَرْطِهِ.وَفيه: أَنَّ مِنْ الْأَحْكَام الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآن مَا هُوَ بِوَحْيٍ لَا يُتْلَى، وَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهِ مَنْ يَقُول مِنْ أَهْل الْأُصُول: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاجْتِهَاد، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُم بِوَحْيٍ، وَلَا دَلَالَة فيه؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَظْهَر لَهُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْم ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ الْوَحْي بَدَرَهُ قَبْل تَمَام الِاجْتِهَاد. وَاَللَّه أَعْلَم.2018- قَوْله: «وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَات» هِيَ بِفَتْحِ الطَّاء الْمُشَدَّدَة، وَهِيَ الثِّيَاب الْمَخِيطَة، وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: يَعْنِي جُبَّة.2019- قَوْله: «مُتَضَمِّخ» هُوَ بِالضَّادِ وَالْخَاء الْمُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ: مُتَلَوِّث بِهِ مُكْثِر مِنْهُ.قَوْله: «مُحْمَرّ الْوَجْه يَغِطّ» هُوَ بِكَسْرِ الْغَيْن، وَسَبَب ذَلِكَ شِدَّة الْوَحْي وَهَوْله، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْك قَوْلًا ثَقِيلًا}، قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا الطِّيب الَّذِي بِك فَاغْسِلْهُ ثَلَاث مَرَّات» إِنَّمَا أَمَرَ بِالثَّلَاثِ مُبَالَغَة فِي إِزَالَة لَوْنه وَرِيحه، وَالْوَاجِب الْإِزَالَة، فَإِنْ حَصَلَتْ بِمَرَّةٍ كَفَتْ، وَلَمْ تَجِب الزِّيَادَة، وَلَعَلَّ الطِّيب الَّذِي كَانَ عَلَى هَذَا الرَّجُل كَثِير، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: «مُتَضَمِّخ» قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ثَلَاث مَرَّات اِغْسِلْهُ. فَكَرَّرَ الْقَوْل ثَلَاثًا، وَالصَّوَاب مَا سَبَقَ. وَاَللَّه أَعْلَم.2020- قَوْله: (عُقْبَة بْن مُكْرَم) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء. قَوْله فِي بَعْض هَذِهِ الرِوَايَة: «صَفْوَان بْن يَعْلَى بْن أُمَيَّة»، وَفِي بَعْضهَا: (اِبْن مُنْيَة) وَهُمَا صَحِيحَانِ فَأُمَيَّة أَبُو يَعْلَى، وَمُنْيَة أُمّ يَعْلَى، وَقِيلَ: جَدَّته، وَالْمَشْهُور الْأَوَّل فَنُسِبَ تَارَة إِلَى أَبِيهِ، وَتَارَة إِلَى أُمّه، وَهِيَ (مُنْيَة) بِضَمِّ الْمِيم بَعْدهَا نُون سَاكِنَة.2021- قَوْله: (حَدَّثَنَا رَبَاح) هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة.قَوْله: «فَسَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يَرْجِع إِلَيْهِ» أَيْ: لَمْ يَرُدّ جَوَابه.قَوْله: «خَمَّرَهُ عُمَر بِالثَّوْبِ» أَيْ: غَطَّاهُ، وَأَمَّا إِدْخَال يَعْلَى رَأْسه وَرُؤْيَته النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَال، وَإِذْن عُمَر لَهُ فِي ذَلِكَ فَكُلّه مَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَكْرَه الِاطِّلَاع عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَتِلْكَ الْحَال؛ لِأَنَّ فيه تَقْوِيَة الْإِيمَان بِمُشَاهَدَةِ حَالَة الْوَحْي الْكَرِيم، وَاَللَّه أَعْلَم..(بَاب مَوَاقِيت الْحَجّ وَالْعُمْرَة): ذَكَرَ مُسْلِم فِي الْبَاب ثَلَاثَة أَحَادِيث، حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَكْمَلُهَا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فيه بِنَقْلِهِ الْمَوَاقِيت الْأَرْبَعَة مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِهَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي أَوَّل الْبَاب، ثُمَّ حَدِيث اِبْن عُمَر؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظ مِيقَات أَهْل الْيَمَن، بَلْ بَلَغَهُ بَلَاغًا، ثُمَّ حَدِيث جَابِر؛ لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْر قَالَ: أَحْسَب جَابِرًا رَفَعَهُ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي ثُبُوته مَرْفُوعًا.فَوَقَّتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة ذَا الْحُلَيْفَة، بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَبِالْفَاءِ، وَهِيَ أَبْعَد الْمَوَاقِيت مِنْ مَكَّة، بَيْنهمَا نَحْو عَشْر مَرَاحِل أَوْ تِسْع، وَهِيَ قَرِيبَة مِنْ الْمَدِينَة عَلَى نَحْو سِتَّة أَمْيَال مِنْهَا، وَلِأَهْلِ الشَّام الْجُحْفَة، وَهِيَ مِيقَات لَهُمْ وَلِأَهْلِ مِصْر، وَهِيَ بِجِيمٍ مَضْمُومَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة سَاكِنَة، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّيْل أَجْحَفَهَا فِي وَقْت، وَيُقَال لَهَا: «مَهْيَعَة» بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْهَاء وَفَتْح الْمُثَنَّاة تَحْت، كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَعْض رِوَايَات مُسْلِم، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْضهمْ، كَسْر الْهَاء، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور إِسْكَانهَا، وَهِيَ عَلَى نَحْو ثَلَاث مَرَاحِل مِنْ مَكَّة عَلَى طَرِيق الْمَدِينَة.وَلِأَهْلِ الْيَمَن: «يَلَمْلَم» بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة تَحْت وَاللَّامَيْنِ، وَيُقَال أَيْضًا: «أَلَمْلَم» بِهَمْزَةٍ بَدَل الْيَاء لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَهُوَ جَبَل مِنْ جِبَال تِهَامَة، عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّة.وَلِأَهْلِ نَجْد: «قَرْن الْمَنَازِل» بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء بِلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَاللُّغَة وَالتَّارِيخ وَالْأَسْمَاء وَغَيْرهمْ، وَغَلِطَ الْجَوْهَرِيّ فِي صِحَاحه فيه غَلَطَيْنِ فَاحِشَيْنِ فَقَالَ: بِفَتْحِ الرَّاء، وَزَعَمَ أَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَنْسُوب إِلَيْهِ، وَالصَّوَاب إِسْكَان الرَّاء، وَأَنَّ أُوَيْسًا مَنْسُوب إِلَى قَبِيلَة مَعْرُوفَة يُقَال لَهُمْ: «بَنُو قَرَن» وَهِيَ بَطْن مِنْ مُرَاد، الْقَبِيلَة الْمَعْرُوفَة يُنْسَب إِلَيْهَا الْمُرَادِيّ، وَقَرْن الْمَنَازِل عَلَى نَحْو مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّة، قَالُوا: وَهُوَ أَقْرَب الْمَوَاقِيت إِلَى مَكَّة.وَأَمَّا: «ذَات عِرْق» بِكَسْرِ الْعَيْن فَهِيَ مِيقَات أَهْل الْعِرَاق، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ صَارَتْ مِيقَاتهمْ بِتَوْقِيتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِاجْتِهَادِ عُمَر بْن الْخَطَّاب؟ وَفِي الْمَسْأَلَة وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ: أَصَحّهمَا: وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْأُمّ: بِتَوْقِيتِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَذَلِكَ صَرِيح فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ. وَدَلِيل مَنْ قَالَ بِتَوْقِيتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيث جَابِر، لَكِنَّهُ غَيْر ثَابِت؛ لِعَدَمِ جَزْمه بِرَفْعِهِ.وَأَمَّا قَوْل الدَّارَقُطْنِيِّ إِنَّهُ حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّ الْعِرَاق لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَامه فِي تَضْعِيفه صَحِيح، وَدَلِيله مَا ذَكَرْته، وَأَمَّا اِسْتِدْلَاله لِضَعْفِهِ بِعَدَمِ فَتْح الْعِرَاق فَفَاسِد؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِع أَنْ يُخْبِر بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيُفْتَحُ، وَيَكُون ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِخْبَار بِالْمَغِيبَاتِ الْمُسْتَقْبَلَات، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الشَّام الْجُحْفَة فِي جَمِيع الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَمَعْلُوم أَنَّ الشَّام لَمْ يَكُنْ فُتِحَ حِينَئِذٍ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَتْحِ الشَّام وَالْيَمَن وَالْعِرَاق، وَأَنَّهُمْ يَأْتُونَ إِلَيْهِمْ يَبُسُّونَ وَالْمَدِينَة خَيْر لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ زُوِيَتْ لَهُ مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا، وَقَالَ: سَيَبْلُغُ مِلْك أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ مِصْر وَهِيَ أَرْض يُذْكَر فيها الْقِيرَاط، وَأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَنْزِل عَلَى الْمَنَارَة الْبَيْضَاء شَرْقِيّ دِمَشْق، وَكُلّ هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي الصَّحِيح، وَفِي الصَّحِيح مِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا يَطُول ذِكْره. وَاَللَّه أَعْلَم.وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيت مَشْرُوعَة، ثُمَّ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور: هِيَ وَاجِبَة لَوْ تَرَكَهَا وَأَحْرَمَ بَعْد مُجَاوَزَتهَا أَثِمَ، وَلَزِمَهُ دَم، وَصَحَّ حَجّه، وَقَالَ عَطَاء وَالنَّخَعِيّ: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر: لَا يَصِحّ حَجّه.وَفَائِدَة الْمَوَاقِيت: أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَة حَرُمَ عَلَيْهِ مُجَاوَزَتهَا بِغَيْرِ إِحْرَام، وَلَزِمَهُ الدَّم كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ أَصْحَابنَا: فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَات قَبْل التَّلَبُّس بِنُسُكٍ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّم، وَفِي الْمُرَاد بِهَذَا النُّسُك خِلَاف مُنْتَشِر، وَأَمَّا مَنْ لَا يُرِيد حَجًّا وَلَا عُمْرَة فَلَا يَلْزَمهُ الْإِحْرَام لِدُخُولِ مَكَّة عَلَى الصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا، سَوَاء دَخَلَ لِحَاجَةٍ تَتَكَرَّر كَحَطَّابٍ وَحَشَّاش وَصَيَّاد وَنَحْوهمْ، أَوْ لَا تَتَكَرَّر كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَة وَنَحْوهمَا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل ضَعِيف أَنَّهُ يَجِب الْإِحْرَام بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة إِنْ دَخَلَ مَكَّة أَوْ غَيْرهَا مِنْ الْحَرَم لِمَا يَتَكَرَّر، بِشَرْطٍ سَبَق بَيَانه فِي أَوَّل كِتَاب الْحَجّ، وَأَمَّا مَنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ غَيْر مُرِيد دُخُول الْحَرَم، بَلْ لِحَاجَةٍ دُونه، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُحْرِم فَيُحْرِم مِنْ مَوْضِعه الَّذِي بَدَا لَهُ فيه، فَإِنْ جَاوَزَهُ بِلَا إِحْرَام ثُمَّ أَحْرَمَ أَثِمَ وَلَزِمَهُ الدَّم، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَوْضِع الَّذِي بَدَا لَهُ أَجْزَأَهُ وَلَا دَم عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلَّف الرُّجُوع إِلَى الْمِيقَات، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق: يَلْزَمهُ الرُّجُوع إِلَى الْمِيقَات.2022- قَوْله: «وَقَّتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَهْلِ الْمَدِينَة ذَا الْحُلَيْفَة وَلِأَهْلِ الشَّام الْجُحْفَة وَلِأَهْلِ نَجْد قَرْن» هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «قَرْن» مِنْ غَيْر أَلِف بَعْد النُّون، وَفِي بَعْضهَا: «قَرْنًا» بِالْأَلِفِ، وَهُوَ الْأَجْوَد؛ لِأَنَّهُ مَوْضِع، وَاسْم لِجَبَلٍ، فَوَجَبَ صَرْفه، وَاَلَّذِي وَقَعَ بِغَيْرِ أَلِف يُقْرَأ مُنَوَّنًا، وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْأَلِف كَمَا جَرَتْ عَادَة بَعْض الْمُحَدِّثِينَ يَكْتُبُونَ يَقُول: سَمِعْت أَنَس بِغَيْرِ أَلِف، وَيُقْرَأ بِالتَّنْوِينِ، وَيَحْتَمِل عَلَى بُعْد أَنْ نَقْرَأ: «قَرْن» مَنْصُوبًا بِغَيْرِ تَنْوِين وَيَكُون أَرَادَ بِهِ الْبُقْعَة، فَيُتْرَك صَرْفه.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْر أَهْلهنَّ» قَالَ الْقَاضِي: كَذَا جَاءَتْ الرِّوَايَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عِنْد أَكْثَر الرُّوَاة، قَالَ: وَوَقَعَ عِنْد بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: «فَهُنَّ لَهُمْ» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي شَيْبَة، وَهُوَ الْوَجْه؛ لِأَنَّهُ ضَمِير أَهْل هَذِهِ الْمَوَاضِع، قَالَ: وَوَجْه الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة أَنَّ الضَّمِير فِي: «لَهُنَّ» عَائِد عَلَى الْمَوَاضِع وَالْأَقْطَار الْمَذْكُورَة، وَهِيَ الْمَدِينَة وَالشَّام وَالْيَمَن وَنَجْد، أَيْ: هَذِهِ الْمَوَاقِيت لِهَذِهِ الْأَقْطَار، وَالْمُرَاد لِأَهْلِهَا فَحَذَفَ الْمُضَاف وَأَقَامَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه.وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْر أَهْلهنَّ» مَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّامِيّ مَثَلًا إِذَا مَرَّ بِمِيقَاتِ الْمَدِينَة فِي ذَهَابه، لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِم مِنْ مِيقَات الْمَدِينَة وَلَا يَجُوز لَهُ تَأْخِيره إِلَى مِيقَات الشَّام الَّذِي هُوَ الْجُحْفَة، وَكَذَا الْبَاقِي مِنْ الْمَوَاقِيت، وَهَذَا لَا خِلَاف فيه.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْر أَهْلهنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجّ وَالْعُمْرَة» فيه دَلَالَة لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح فِيمَنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ لَا يُرِيد حَجًّا وَلَا عُمْرَة أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ الْإِحْرَام لِدُخُولِ مَكَّة، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة وَاضِحَة، قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَفيه دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْحَجّ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْر، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة وَاضِحَة فِي أَوَّل كِتَاب الْحَجّ.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ دُونهنَّ فَمِنْ أَهْله» هَذَا صَرِيح فِي أَنَّ مَنْ كَانَ مَسْكَنه بَيْن مَكَّة وَالْمِيقَات فَمِيقَاته مَسْكَنه، وَلَا يَلْزَمهُ الذَّهَاب إِلَى الْمِيقَات، وَلَا يَجُوز لَهُ مُجَاوَزَة مَسْكَنه بِغَيْرِ إِحْرَام.هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مُجَاهِدًا، فَقَالَ: مِيقَاته مَكَّة بِنَفْسِهَا.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ دُونهنَّ فَمِنْ أَهْله وَكَذَا فَكَذَلِكَ حَتَّى أَهْل مَكَّة يُهِلُّونَ مِنْهَا» هَكَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ وَهُوَ صَحِيح، وَمَعْنَاهُ: وَهَكَذَا فَهَكَذَا مَنْ جَاوَزَ مَسْكَنه الْمِيقَات حَتَّى أَهْل مَكَّة يُهِلُّونَ مِنْهَا، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذَا كُلّه، فَمَنْ كَانَ فِي مَكَّة مِنْ أَهْلهَا أَوْ وَارِدًا إِلَيْهَا وَأَرَادَ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ، فَمِيقَاته نَفْس مَكَّة وَلَا يَجُوز لَهُ تَرْك مَكَّة وَالْإِحْرَام بِالْحَجِّ مِنْ خَارِجهَا، سَوَاء الْحَرَم وَالْحِلّ هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَجُوز لَهُ أَنْ يُحْرِم بِهِ مِنْ الْحَرَم، كَمَا يَجُوز مِنْ مَكَّة؛ لِأَنَّ حُكْم الْحَرَم حُكْم مَكَّة، وَالصَّحِيح الْأَوَّل؛ لِهَذَا الْحَدِيث، قَالَ أَصْحَابنَا: وَيَجُوز أَنْ يُحْرِم مِنْ جَمِيع نَوَاحِي مَكَّة بِحَيْثُ لَا يَخْرُج عَنْ نَفْس الْمَدِينَة وَسُورهَا، وَفِي الْأَفْضَل قَوْلَانِ: أَصَحّهمَا: مِنْ بَاب دَاره.وَالثَّانِي: مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام تَحْت الْمِيزَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.وَهَذَا كُلّه فِي إِحْرَام الْمَكِّيّ بِالْحَجِّ، وَالْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ فِي إِحْرَامه بِالْحَجِّ، وَأَمَّا مِيقَات الْمَكِّيّ لِلْعُمْرَةِ فَأَدْنَى الْحِلّ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَة الْآتِي: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا فِي الْعُمْرَة أَنْ تَخْرُج إِلَى التَّنْعِيم، وَتُحْرِم بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ، و«التَّنْعِيم» فِي طَرَف الْحِلّ. وَاَللَّه أَعْلَم.2023- سبق شرحه بالباب.2024- سبق شرحه بالباب.2025- سبق شرحه بالباب.2026- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُهَلّ أَهْل الْمَدِينَة» هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْهَاء وَتَشْدِيد اللَّام، أَيْ: مَوْضِع إِهْلَالهمْ.قَوْله: (قَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَزَعَمُوا) أَيْ: قَالُوا، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل الْكِتَاب أَنَّ الزَّعْم قَدْ يَكُون مَعْنَى الْقَوْل الْمُحَقَّق.2027- سبق شرحه بالباب.2028- قَوْله: «أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه يَسْأَل عَنْ الْمُهَلّ، فَقَالَ: سَمِعْته ثُمَّ اِنْتَهَى فَقَالَ: أَرَاهُ يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» مَعْنَى هَذَا الْكَلَام: أَنَّ أَبَا الزُّبَيْر قَالَ سَمِعْت جَابِرًا، ثُمَّ اِنْتَهَى، أَيْ: وَقَفَ عَنْ رَفْع الْحَدِيث إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «أُرَاهُ» بِضَمِّ الْهَمْزَة أَيْ: أَظُنّهُ رَفَعَ الْحَدِيث، فَقَالَ: «أُرَاهُ» يَعْنِي: النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أَحْسَبهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَوْله: أَحْسَبهُ رَفَعَ، لَا يُحْتَجّ بِهَذَا الْحَدِيث مَرْفُوعًا؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَجْزِم بِرَفْعِهِ.قَوْله فِي حَدِيث جَابِر: «وَمُهَلّ أَهْل الْعِرَاق مِنْ ذَات عِرْق» هَذَا صَرِيح فِي كَوْنه مِيقَات أَهْل الْعِرَاق، لَكِنْ لَيْسَ رَفْع الْحَدِيث ثَابِتًا كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ سَبَقَ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ ذَات عِرْق مِيقَات أَهْل الْعِرَاق، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، قَالَ الشَّافِعِيّ: وَلَوْ أَهَلُّوا مِنْ الْعَقِيق كَانَ أَفْضَل، وَالْعَقِيق أَبْعَد مِنْ ذَات عِرْق بِقَلِيلٍ، فَاسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيّ؛ لِأَثَرٍ فيه؛ وَلِأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ ذَات عِرْق كَانَتْ أَوَّلًا فِي مَوْضِعه، ثُمَّ حُوِّلَتْ وَقُرِّبَتْ إِلَى مَكَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَجِّ مِيقَات مَكَان، وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَمِيقَات زَمَان: وَهُوَ شَوَّال وَذُو الْقَعْدَة وَعَشْر لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّة، وَلَا يَجُوز الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فِي غَيْر هَذَا الزَّمَان. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْر هَذَا الزَّمَان لَمْ يَنْعَقِد حَجًّا، وَانْعَقَدَ عُمْرَة، وَأَمَّا الْعُمْرَة فَيَجُوز الْإِحْرَام بِهَا وَفِعْلهَا فِي جَمِيع السَّنَة، وَلَا يُكْرَه فِي شَيْء مِنْهَا، لَكِنْ شَرْطهَا أَلَّا يَكُون فِي الْحَجّ وَلَا مُقِيمًا عَلَى شَيْء مِنْ أَفْعَاله، وَلَا يُكْرَه تَكْرَار الْعُمْرَة فِي السَّنَة، بَلْ يُسْتَحَبّ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَكَرِهَ تَكْرَارهَا فِي السَّنَة اِبْن سِيرِينَ وَمَالِك، وَيَجُوز الْإِحْرَام بِالْحَجِّ مِمَّا فَوْق الْمِيقَات أَبْعَد مِنْ مَكَّة سَوَاء دُوَيْرَة أَهْله وَغَيْرهَا، وَأَيّهمَا أَفْضَل؟ فيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا: مِنْ الْمِيقَات أَفْضَل؛ لِلِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللَّه أَعْلَم..(بَاب التَّلْبِيَة وَصِفَتهَا وَوَقْتهَا): قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: التَّلْبِيَة مُثَنَّاة لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَة، وَمَعْنَاهُ: إِجَابَة بَعْد إِجَابَة، وَلُزُومًا لِطَاعَتِك فَتُثَنَّى لِلتَّوْكِيدِ لَا تَثْنِيَة حَقِيقِيَّة، بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أَيْ: نِعْمَتَاهُ، عَلَى تَأْوِيل الْيَد بِالنِّعْمَةِ هُنَا، وَنِعَم اللَّه تَعَالَى لَا تُحْصَى، وَقَالَ يُونُس بْن حَبِيب الْبَصْرِيّ: «لَبَّيْكَ» اِسْم مُفْرَد لَا مُثَنَّى، قَالَ: وَأَلِفه إِنَّمَا اِنْقَلَبَتْ يَاء لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ: «كَلَدَيَّ» وَعَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مُثَنَّى بِدَلِيلِ قَلْبهَا يَاء مَعَ الْمُظْهِر، وَأَكْثَر النَّاس عَلَى مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: ثَنَّوْا: «لَبَّيْكَ» كَمَا ثَنَّوْا: «حَنَانَيْك» أَيْ: تَحَنُّنًا بَعْد تَحَنُّن وَأَصْل: «لَبَّيْكَ»: لَبَّبْتُك فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْع بَيْن ثَلَاث بَاءَات، فَأَبْدَلُوا مِنْ الثَّالِثَة يَاء كَمَا قَالُوا: مِنْ الظَّنّ: «تَظَنَّيْت»، وَالْأَصْل (تَظَنَّنْت).وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى لَبَّيْكَ وَاشْتِقَاقهَا، فَقِيلَ: مَعْنَاهَا: اِتِّجَاهِي وَقَصْدِي إِلَيْك، مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: دَارِي تَلُبّ دَارك، أَيْ: تُوَاجِههَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: مَحَبَّتِي، قَوْلهمْ: «لَك» مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: اِمْرَأَة لَبَّة، إِذَا كَانَتْ مُحِبَّة لِوَلَدِهَا، عَاطِفَة عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: إِخْلَاص لَك، مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: (حَسْب لُبَاب) إِذَا كَانَ خَالِصًا مَحْضًا، وَمِنْ ذَلِكَ (لُبّ الطَّعَام وَلُبَابه) وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: (أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك وَإِجَابَتك)، مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: (لَبَّ الرَّجُل بِالْمَكَانِ وَأَلَبَّ) إِذَا أَقَامَ فيه، قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: وَبِهَذَا قَالَ الْخَلِيل، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: هَذِهِ الْإِجَابَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ} وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي مَعْنَى: «لَبَّيْكَ»: أَيْ قُرْبًا مِنْك وَطَاعَة، وَالْإِلْبَاب: الْقُرْب، وَقَالَ أَبُو نَصْر: مَعْنَاهُ: «أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك» أَيْ: خَاضِع، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.وَأَمَّا حُكْم التَّلْبِيَة فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مَشْرُوعَة، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي إِيجَابهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ؟ هِيَ سُنَّة لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَجّ وَلَا بِوَاجِبَةٍ، فَلَوْ تَرَكَهَا صَحَّ حَجّه وَلَا دَم عَلَيْهِ، لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: هِيَ وَاجِبَة تُجْبَر بِالدَّمِ، وَيَصِحّ الْحَجّ بِدُونِهَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: هِيَ شَرْط لِصِحَّةِ الْإِحْرَام، قَالَ: وَلَا يَصِحّ الْإِحْرَام وَلَا الْحَجّ إِلَّا بِهَا، وَالصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الشَّافِعِيّ وَقَالَ مَالِك: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَهَا لَزِمَهُ دَم وَصَحَّ حَجّه.قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك: يَنْعَقِد الْحَجّ بِالنِّيَّةِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْر لَفْظ، كَمَا يَنْعَقِد الصَّوْم بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَنْعَقِد إِلَّا بِانْضِمَامِ التَّلْبِيَة أَوْ سَوْق الْهَدْي إِلَى النِّيَّة، قَالَ أَبُو حَنِيفَة: وَيَجْزِي عَنْ التَّلْبِيَة مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ التَّسْبِيح وَالتَّهْلِيل وَسَائِر الْأَذْكَار كَمَا قَالَ: هُوَ أَنَّ التَّسْبِيح وَغَيْره يَجْزِي فِي الْإِحْرَام بِالصَّلَاةِ عَنْ التَّكْبِير. وَاَللَّه أَعْلَم.قَالَ أَصْحَابنَا: وَيُسْتَحَبّ رَفْع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ بِحَيْثُ لَا يَشُقّ عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَة لَيْسَ لَهَا الرَّفْع؛ لِأَنَّهُ يُخَاف الْفِتْنَة بِصَوْتِهَا. وَيُسْتَحَبّ الْإِكْثَار مِنْهَا لاسيما عِنْد تَغَايُر الْأَحْوَال، كَإِقْبَالِ اللَّيْل وَالنَّهَار، وَالصُّعُود وَالْهُبُوط، وَاجْتِمَاع الرِّفَاق، وَالْقِيَام وَالْقُعُود وَالرُّكُوب وَالنُّزُول، وَأَدْبَار الصَّلَوَات، وَفِي الْمَسَاجِد كُلّهَا، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ لَا يُلَبِّي فِي الطَّوَاف وَالسَّعْي؛ لِأَنَّ لَهُمَا أَذْكَارًا مَخْصُوصَة.وَيُسْتَحَبّ أَنْ يُكَرِّر التَّلْبِيَة كُلّ مَرَّة ثَلَاث مَرَّات فَأَكْثَر، وَيُوَالِيهَا وَلَا يَقْطَعهَا بِكَلَامٍ، فَإِنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّ السَّلَام بِاللَّفْظِ، وَيُكْرَه السَّلَام عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَال، وَإِذَا لَبَّى صَلَّى عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ اللَّه تَعَالَى مَا شَاءَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَفْضَله سُؤَال الرِّضْوَان وَالْجَنَّة وَالِاسْتِعَاذَة مِنْ النَّار، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبهُ قَالَ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة.وَلَا تَزَال التَّلْبِيَة مُسْتَحَبَّة لِلْحَاجِّ حَتَّى يَشْرَع فِي رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة يَوْم النَّحْر، أَوْ يَطُوف طَوَاف الْإِفَاضَة إِنْ قَدَّمَهُ عَلَيْهَا، أَوْ الْحَلْق عِنْد مَنْ يَقُول الْحَلْق نُسُك، وَهُوَ الصَّحِيح، وَتُسْتَحَبّ لِلْعُمْرَةِ حَتَّى يَشْرَع فِي الطَّوَاف، وَتُسْتَحَبّ التَّلْبِيَة لِلْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، سَوَاء الرَّجُل وَالْمَرْأَة وَالْمُحْدِث وَالْجُنُب وَالْحَائِض، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «اِصْنَعِي مَا يَصْنَع الْحَاجّ غَيْر أَلَّا تَطُوفِي».2029- قَوْله: «لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة» يُرْوَى بِكَسْرِ الْهَمْزَة مِنْ (إِنَّ) وَفَتْحهَا، وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيث وَأَهْل اللُّغَة، قَالَ الْجُمْهُور: الْكَسْر أَجْوَد، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَتْح رِوَايَة الْعَامَّة، وَقَالَ ثَعْلَب: الِاخْتِيَار الْكَسْر وَهُوَ الْأَجْوَد فِي الْمَعْنَى مِنْ الْفَتْح؛ لِأَنَّ مَنْ كَسَرَ جَعَلَ مَعْنَاهُ: إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك عَلَى كُلّ حَال، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ: مَعْنَاهُ لَبَّيْكَ؛ لِهَذَا السَّبَب.قَوْله: «وَالنِّعْمَة لَك» الْمَشْهُور فيه نَصْب النِّعْمَة، قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوز رَفْعهَا عَلَى الِابْتِدَاء، وَيَكُون الْخَبَر مَحْذُوفًا، قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: وَإِنْ شِئْت جَعَلْت خَبَر (إِنَّ) مَحْذُوفًا تَقْدِيره: إِنَّ الْحَمْد لَك وَالنِّعْمَة مُسْتَقِرَّة لَك.وَقَوْله: «وَسَعْدَيْكَ» قَالَ الْقَاضِي: إِعْرَابهَا وَتَثْنِيَتهَا كَمَا سَبَقَ فِي لَبَّيْكَ، وَمَعْنَاهُ: مُسَاعَدَة لِطَاعَتِك بَعْد مُسَاعَدَة.قَوْله: «وَالْخَيْر بِيَدَيْك» أَيْ: الْخَيْر كُلّه بِيَدِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ فَضْله.قَوْله: «وَالرَّغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: يُرْوَى بِفَتْحِ الرَّاء وَالْمَدّ، وَبِضَمِّ الرَّاء مَعَ الْقَصْر، وَنَظِيره الْعُلَا وَالْعَلْيَاء، وَالنُّعْمَى وَالنَّعْمَاء، قَالَ الْقَاضِي: حَكَى أَبُو عَلِيّ فيه أَيْضًا الْفَتْح مَعَ الْقَصْر، (الرَّغْبَى) مِثْل (سَكْرَى) وَمَعْنَاهُ هُنَا: الطَّلَب وَالْمَسْأَلَة إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْر، وَهُوَ الْمَقْصُود بِالْعَمَلِ الْمُسْتَحِقّ لِلْعِبَادَةِ.2030- قَوْله: (عَنْ اِبْن عُمَر تَلَقَّفْت التَّلْبِيَة) هُوَ بِقَافٍ ثُمَّ فَاء، أَيْ: أَخَذْتهَا بِسُرْعَةٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ (تَلَقَّنْت) بِالنُّونِ، قَالَ: وَالْأَوَّل رِوَايَة الْجُمْهُور، وَقَالَ: وَرُوِيَ (تَلَقَّيْت) بِالْيَاءِ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَة.قَوْله: (أَهَلَّ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) قَالَ الْعُلَمَاء: (الْإِهْلَال) رَفْع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ عِنْد الدُّخُول فِي الْإِحْرَام، وَأَصْل الْإِهْلَال فِي اللُّغَة: رَفْع الصَّوْت، وَمِنْهُ اِسْتَهَلَّ الْمَوْلُود: أَيْ صَاحَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه} أَيْ: رَفْع الصَّوْت عِنْد ذَبْحه بِغَيْرِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى، وَسُمِّيَ الْهِلَال هِلَالًا؛ لِرَفْعِهِمْ الصَّوْت عِنْد رُؤْيَته.2031- قَوْله: «سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلّ مُلَبِّدًا» فيه اِسْتِحْبَاب تَلْبِيد الرَّأْس قَبْل الْإِحْرَام، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابنَا، وَهُوَ مُوَافِق لِلْحَدِيثِ الْآخَر فِي الَّذِي خَرَّ عَنْ بَعِيره فَإِنَّهُ يُبْعَث يَوْم الْقِيَامَة مُلَبِّدًا، قَالَ الْعُلَمَاء: التَّلْبِيد ضَفْر الرَّأْس بِالصَّمْغِ أَوْ الْخَطْمِيّ وَشَبَههمَا، مِمَّا يَضُمّ الشَّعْر وَيَلْزَق بَعْضه بِبَعْضٍ، وَيَمْنَعهُ التَّمَعُّط وَالْقَمْل، فَيُسْتَحَبّ؛ لِكَوْنِهِ أَرْفَق بِهِ.قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَع بِذِي الْحُلَيْفَة رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إِذَا اِسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَة قَائِمَة عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة أَهَلَّ» فيه اِسْتِحْبَاب صَلَاة الرَّكْعَتَيْنِ عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام وَيُصَلِّيهِمَا قَبْل الْإِحْرَام، وَيَكُونَانِ نَافِلَة، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي وَغَيْره عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: أَنَّهُ اِسْتَحَبَّ كَوْنهمَا بَعْد صَلَاة فَرْض، قَالَ: لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا صَلَاة الصُّبْح، وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجُمْهُور، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث، قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: وَهَذِهِ الصَّلَاة سُنَّة لَوْ تَرَكَهَا فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة، وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا دَم، قَالَ أَصْحَابنَا: فَإِنْ كَانَ إِحْرَامه فِي وَقْت مِنْ الْأَوْقَات الْمَنْهِيّ فيها عَنْ الصَّلَاة لَمْ يُصَلِّهِمَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَفيه وَجْه لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يُصَلِّيهِمَا فيه؛ لِأَنَّ سَبَبهمَا إِرَادَة الْإِحْرَام، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ.وَأَمَّا وَقْت الْإِحْرَام فَسَنَذْكُرُهُ فِي الْبَاب بَعْده إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.2032- قَوْله: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيك لَك، قَالَ: فَيَقُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلكُمْ قَدْ قَدْ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ» فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ قَدْ» قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ بِإِسْكَانِ الدَّال وَكَسْرهَا مَعَ التَّنْوِين، وَمَعْنَاهُ: كَفَاكُمْ هَذَا الْكَلَام فَاقْتَصِرُوا عَلَيْهِ وَلَا تَزِيدُوا، وَهُنَا اِنْتَهَى كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ الرَّاوِي إِلَى حِكَايَة كَلَام الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك...» إِلَى آخِره مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَذِهِ الْجُمْلَة، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: اِقْتَصِرُوا عَلَى قَوْلكُمْ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيك لَك». وَاَللَّه أَعْلَم.
|